كتاب تجديد المنهج في تقويم التراثالمكتبة التجريبية

كتاب تجديد المنهج في تقويم التراث

في إطار الحديث عن النقد والتفكيك الذي أتت به حداثة الفلسفة المعاصرة، يتأتى الحديث عن النقد المعاصر للتراث أو بالأحرى التقويمات المعاصرة للتراث، وقد طغت عليها في معظمها، كما يرى الدكتور طه عبدالرحمن، النظرة التجزيئية التفاضلية، التي نظرت في مضامين النصوص التراثية بوسائل تجريدية وتسييسية منقولة، متناسية الوسائل "التسديدية" و"التأنيسية" التي عملت على تأصيل وإنتاج هذه المضامين التراثية. وقد "بنى طه مقاربته لحقيقة ومنهج التراث على منهجية وآلية وعملية واعتراضية، فأما الآلية فتجسدت في الاعتراض على مقاربة التراث بتسليط آليات منقولة إليه، مما يُفضي إلى نظرة تجزئيّة ظاهرة التهافت، ولذلك فإنّ حقيقة التراث هي مضامينه التي تجتمع إلى الآليات التي أنتجتها، ومنهج التراث هو الذي يتمثل في الممارسة والإشغال التراثي في مظهريه التكامليين: التداخلي والتقريبي[...]، وأمّا العملية فتتمثل في تفعيل التراث وإعماله؛ لأنّ عقل التراث عقل واسع وعلمه نافع يجمع النظر في الأسباب ومقاصد العمل بها، وأخيراً تأتي المنهجية الاعتراضية التي انطلق منها د. طه لتُبطل ما تعرض له التراث من قراءات أهملت جوانبه المضيئة وقصّرت في تبيان مجالات إمكان الاستئناف والمواصلة في العطاء". وفي ذلك يأتي قوله تأكيداً: "لقد اتبعنا في الاشتغال بمسالك تقويم التراث منهجية تستمد أوصافها الجوهرية من المبادئ التي قامت عليها الممارسة التراثية الإسلامية العربية؛ فكانت في مقصدها منهجية آلية لا مضمونية: فلم تنظر في مضامين الإنتاج التراثي بقدر ما نظرت في الآليات التي تولّدت بها هذه المضامين وتفرعت تفرعًا، عملاً بمبدإ تراثي، مقتضاه [أنّ اعتبار المعاني لا يستقيم، حتى يستند إلى اعتبار المبادئ]؛ كما كانت، في منطلقها، منهجية عملية لا مجردة: فلم تعتمد معرفة نظرية منقولة ومقطوعة عن الضوابط المحددة والقيم الموجهة للممارسة التراثية، بل استندت إلى أساليب التبليغ العربي في خصوصيتها، وإلى معاني العقيدة الإسلامية في شموليتها، وإلى مضامين المعرفة الإسلامية العربية في موسوعيتها، عملاً بمبدإ تراثي ثانٍ، مقتضاه [أنّ المعرفة لا تثمر حتى تكون على قدر عقول المخاطبين بها]؛ وكانت في مسلكها أخيرًا منهجية اعتراضية لا عَرْضية: فلم تكن تقرّر الأحكام تقريرًا وترسلها في عموم التراث إرسالاً، وإنما كانت تفتح باب السؤال، فتورد ما جاز من الاعتراضات على ما ادعاه بعض من تعاطوا لتقويم التراث من أقوال، بل على ما جئنا به نحن من دعاوى، حتى تمحّصها كما ينبغي وتقوّمها بالوجه الذي ينبغي، عملاً بمبدإ تراثي ثالث، مقتضاه [أنّ الظفر بالصواب لا يكون إلاّ بمعونة الغير]" - نقد الخطابات التجزيئية (للعقلانية المجردة) في القراءة المعاصرة للتراث يرتكز عمل الدكتور طه عبدالرحمن في مسألة تجديد النظر إلى التراث على شيئين أساسيين: أولهما: نقده للخطابات التجزيئية التفاضلية في قراءة التراث والكشف عن مظاهرها الأساسية التي يتجلى فيها هذا التجزيئي المجرّد للمحتوى التراثي والوقوف على الأسباب العامة التي أدت إلى ذلك، وقد انطلق من دعوى مفادها "أنّ التقويم الذي يغلب عليه عملية الانشغال بمضامين النص التراثي، ولا ينظر البتة في الوسائل اللغوية والمنطقية التي أنشئت وبلغت بها هذه المضامين، يقع في نظرة تجزيئية إلى التراث". "هذه الدعوى استند في إثباتها إلى مقدّمة التركيب المزدوج للنص، واعتبر أنّ كلّ نصّ حامل لمضمون مخصوص، وأنّ كلّ مضمون مبني بوسائل معينة، ومصُوغ على كيفيات محددة، حيث لا يتأتّى استيعاب المستويات المضمونية القريبة والبعيدة للنص، إلا إذا أحيط علماً بالوسائل والكيفيات العامة والخاصة التي تدخل في بناء هذه المستويات المضمونية. لذا فكل قراءة تراثية تأخذ بالمضامين من دون الوسائل التي أنتجتها واقعة في الإخلال بحقيقة التلازم بين طرفي النص: المضمون والآليات، كما أنّ تقسيم المضامين التراثية إلى أجزاء بينها تفاضل، وانتقاء ما حسن منها ينتمي أصحابها إلى النزعة المضمونية التي حملتهم على اعتناق النظرة التجزيئية، بالإضافة إلى توسلهم بآليات مستمدة من مجالات ثقافية أخرى غير التراث العربي الإسلامي، يسميها طه عبدالرحمن الآليات الاستهلاكية، وقد حصرها في صنفين أساسيين هما: الآليات العقلانية، والآليات الإيديولوجية والفكرانية". وثاني مرتكزات الدكتور طه في تجديد النظر إلى التراث هو إبداعه في "تجديد عطاء التراث واستئناف بنائه"، فيرى الدكتور طه أنّ التراث واحد في حد ذاته ومتعدد باعتبار الذات القارئة له أو بالأحرى باختلاف القراءات والرؤى له، فيقول: "إنّ التراث بوصفه جملة وقائع معلومة يبقى واحداً لا تعدد فيه، ولو أنّ الطرق الموصلة إلى هذه الوقائع هي بعدد المفكرين الذين اشتغلوا به وصفاً أو نقداً". "غير أنّ الكثرة التي تناولت التراث بين وصف ونقد لم تصب في طلبها النهوض بالتراث واستئنافاً لبنائه وتجديداً لعطائه، وهذا يرجع، في نظر د. طه عبدالرحمن إلى قصور الفهوم عن طلب حوار مع التراث يتوسل بآليات حديثة منقحة ويشحذ، في الوقت نفسه، آليات إنتاج النص التراثي نفسه، فما هي الخطة القويمة لتجديد عطاء التراث واستئنافه عند د. طه عبدالرحمن؟". يؤسّس الدكتور طه رؤيته للنهوض بالتراث على عدّة محاور أهمها: "الاحتكام إلى المجال التداولي الإسلامي روحاً ومنهجاً[...]، والتحرر من أيّة سلطة فكرية غربية توجّه البحث، ومن هنا وضَعَ حدّاً لمرجعيات تحشر نفسها في كل قضية، وأزاح كابوس الإحالات المفتعلة والمغرضة لدى الكثيرين من أصحاب القراءات[...]، وضع ما سماه الآليات الإنتاجية التي رتب قوانينها، وبيّن خصائصها، فأصبح مشروعه هرماً معمارياً من المصطلحات والمفاهيم التي تم تشكيلها بتلقائية". ومن أهم هذه المحاور أيضاً "استخراج آليات إنتاج النص التراثي وتحديث إجرائيتها بشحذ العدة المنهجية التراثية وتأهيلها لمواصلة العطاء واستئناف البناء". وبذلك يمكننا أن نقول: إنّ الدكتور طه صار في نظرته إلى التراث أكثر حداثة من غيره، ويتضح ذلك في أنه لم يطلب من الحداثة إلا أدواتها ووسائلها النافعة، ولم يكتف بذلك فقط، بل طلب مواءمة هذه الوسائل لخدمة إشكالاتنا التراثية، وبذلك فتح الطريق أمام العقل العربي للإبداع من خلال استخراج وتبديل الآليات المنتجة للنص التراثي، ونقد وتمحيص الآليات المنهجية المقتبسة من التراث الغربي، وفي هذا يقول الدكتور طه ينبغي "الخروج عن الطريق الذي اتبعه مفكرو الغرب والعرب على السواء في تقويم التراث الإسلامي العربي".
طه عبد الرحمن - طه عبد الرحمن (1944 بالجديدة)، فيلسوف مغربي، متخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق. ويعد أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين في مجال التداول الإسلامي العربي منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ❝ ❞ سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية ❝ ❞ روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية ❝ ❞ الحوار أفقا للفكر ❝ ❞ تجديد المنهج في تقويم التراث ❝ ❞ سؤال العمل: بحث في الأصول العملية في الفكر والعلم ❝ ❞ التأسيس الائتماني لعلم المقاصد ❝ الناشرين : ❞ المركز الثقافي العربي ❝ ❞ الشبكة العربية للأبحاث والنشر ❝ ❞ مركز نهوض للدراسات والنشر ❝ ❱
من فكر إسلامي الفكر والفلسفة - مكتبة المكتبة التجريبية.

وصف الكتاب : في إطار الحديث عن النقد والتفكيك الذي أتت به حداثة الفلسفة المعاصرة، يتأتى الحديث عن النقد المعاصر للتراث أو بالأحرى التقويمات المعاصرة للتراث، وقد طغت عليها في معظمها، كما يرى الدكتور طه عبدالرحمن، النظرة التجزيئية التفاضلية، التي نظرت في مضامين النصوص التراثية بوسائل تجريدية وتسييسية منقولة، متناسية الوسائل "التسديدية" و"التأنيسية" التي عملت على تأصيل وإنتاج هذه المضامين التراثية.

وقد "بنى طه مقاربته لحقيقة ومنهج التراث على منهجية وآلية وعملية واعتراضية، فأما الآلية فتجسدت في الاعتراض على مقاربة التراث بتسليط آليات منقولة إليه، مما يُفضي إلى نظرة تجزئيّة ظاهرة التهافت، ولذلك فإنّ حقيقة التراث هي مضامينه التي تجتمع إلى الآليات التي أنتجتها، ومنهج التراث هو الذي يتمثل في الممارسة والإشغال التراثي في مظهريه التكامليين: التداخلي والتقريبي[...]، وأمّا العملية فتتمثل في تفعيل التراث وإعماله؛ لأنّ عقل التراث عقل واسع وعلمه نافع يجمع النظر في الأسباب ومقاصد العمل بها، وأخيراً تأتي المنهجية الاعتراضية التي انطلق منها د. طه لتُبطل ما تعرض له التراث من قراءات أهملت جوانبه المضيئة وقصّرت في تبيان مجالات إمكان الاستئناف والمواصلة في العطاء".

وفي ذلك يأتي قوله تأكيداً: "لقد اتبعنا في الاشتغال بمسالك تقويم التراث منهجية تستمد أوصافها الجوهرية من المبادئ التي قامت عليها الممارسة التراثية الإسلامية العربية؛ فكانت في مقصدها منهجية آلية لا مضمونية: فلم تنظر في مضامين الإنتاج التراثي بقدر ما نظرت في الآليات التي تولّدت بها هذه المضامين وتفرعت تفرعًا، عملاً بمبدإ تراثي، مقتضاه [أنّ اعتبار المعاني لا يستقيم، حتى يستند إلى اعتبار المبادئ]؛ كما كانت، في منطلقها، منهجية عملية لا مجردة: فلم تعتمد معرفة نظرية منقولة ومقطوعة عن الضوابط المحددة والقيم الموجهة للممارسة التراثية، بل استندت إلى أساليب التبليغ العربي في خصوصيتها، وإلى معاني العقيدة الإسلامية في شموليتها، وإلى مضامين المعرفة الإسلامية العربية في موسوعيتها، عملاً بمبدإ تراثي ثانٍ، مقتضاه [أنّ المعرفة لا تثمر حتى تكون على قدر عقول المخاطبين بها]؛ وكانت في مسلكها أخيرًا منهجية اعتراضية لا عَرْضية: فلم تكن تقرّر الأحكام تقريرًا وترسلها في عموم التراث إرسالاً، وإنما كانت تفتح باب السؤال، فتورد ما جاز من الاعتراضات على ما ادعاه بعض من تعاطوا لتقويم التراث من أقوال، بل على ما جئنا به نحن من دعاوى، حتى تمحّصها كما ينبغي وتقوّمها بالوجه الذي ينبغي، عملاً بمبدإ تراثي ثالث، مقتضاه [أنّ الظفر بالصواب لا يكون إلاّ بمعونة الغير]"

- نقد الخطابات التجزيئية (للعقلانية المجردة) في القراءة المعاصرة للتراث

يرتكز عمل الدكتور طه عبدالرحمن في مسألة تجديد النظر إلى التراث على شيئين أساسيين:

أولهما: نقده للخطابات التجزيئية التفاضلية في قراءة التراث والكشف عن مظاهرها الأساسية التي يتجلى فيها هذا التجزيئي المجرّد للمحتوى التراثي والوقوف على الأسباب العامة التي أدت إلى ذلك، وقد انطلق من دعوى مفادها "أنّ التقويم الذي يغلب عليه عملية الانشغال بمضامين النص التراثي، ولا ينظر البتة في الوسائل اللغوية والمنطقية التي أنشئت وبلغت بها هذه المضامين، يقع في نظرة تجزيئية إلى التراث".

"هذه الدعوى استند في إثباتها إلى مقدّمة التركيب المزدوج للنص، واعتبر أنّ كلّ نصّ حامل لمضمون مخصوص، وأنّ كلّ مضمون مبني بوسائل معينة، ومصُوغ على كيفيات محددة، حيث لا يتأتّى استيعاب المستويات المضمونية القريبة والبعيدة للنص، إلا إذا أحيط علماً بالوسائل والكيفيات العامة والخاصة التي تدخل في بناء هذه المستويات المضمونية. لذا فكل قراءة تراثية تأخذ بالمضامين من دون الوسائل التي أنتجتها واقعة في الإخلال بحقيقة التلازم بين طرفي النص: المضمون والآليات، كما أنّ تقسيم المضامين التراثية إلى أجزاء بينها تفاضل، وانتقاء ما حسن منها ينتمي أصحابها إلى النزعة المضمونية التي حملتهم على اعتناق النظرة التجزيئية، بالإضافة إلى توسلهم بآليات مستمدة من مجالات ثقافية أخرى غير التراث العربي الإسلامي، يسميها طه عبدالرحمن الآليات الاستهلاكية، وقد حصرها في صنفين أساسيين هما: الآليات العقلانية، والآليات الإيديولوجية والفكرانية".

وثاني مرتكزات الدكتور طه في تجديد النظر إلى التراث هو إبداعه في "تجديد عطاء التراث واستئناف بنائه"، فيرى الدكتور طه أنّ التراث واحد في حد ذاته ومتعدد باعتبار الذات القارئة له أو بالأحرى باختلاف القراءات والرؤى له، فيقول: "إنّ التراث بوصفه جملة وقائع معلومة يبقى واحداً لا تعدد فيه، ولو أنّ الطرق الموصلة إلى هذه الوقائع هي بعدد المفكرين الذين اشتغلوا به وصفاً أو نقداً".

"غير أنّ الكثرة التي تناولت التراث بين وصف ونقد لم تصب في طلبها النهوض بالتراث واستئنافاً لبنائه وتجديداً لعطائه، وهذا يرجع، في نظر د. طه عبدالرحمن إلى قصور الفهوم عن طلب حوار مع التراث يتوسل بآليات حديثة منقحة ويشحذ، في الوقت نفسه، آليات إنتاج النص التراثي نفسه، فما هي الخطة القويمة لتجديد عطاء التراث واستئنافه عند د. طه عبدالرحمن؟".

يؤسّس الدكتور طه رؤيته للنهوض بالتراث على عدّة محاور أهمها:

"الاحتكام إلى المجال التداولي الإسلامي روحاً ومنهجاً[...]، والتحرر من أيّة سلطة فكرية غربية توجّه البحث، ومن هنا وضَعَ حدّاً لمرجعيات تحشر نفسها في كل قضية، وأزاح كابوس الإحالات المفتعلة والمغرضة لدى الكثيرين من أصحاب القراءات[...]، وضع ما سماه الآليات الإنتاجية التي رتب قوانينها، وبيّن خصائصها، فأصبح مشروعه هرماً معمارياً من المصطلحات والمفاهيم التي تم تشكيلها بتلقائية". ومن أهم هذه المحاور أيضاً "استخراج آليات إنتاج النص التراثي وتحديث إجرائيتها بشحذ العدة المنهجية التراثية وتأهيلها لمواصلة العطاء واستئناف البناء".

وبذلك يمكننا أن نقول: إنّ الدكتور طه صار في نظرته إلى التراث أكثر حداثة من غيره، ويتضح ذلك في أنه لم يطلب من الحداثة إلا أدواتها ووسائلها النافعة، ولم يكتف بذلك فقط، بل طلب مواءمة هذه الوسائل لخدمة إشكالاتنا التراثية، وبذلك فتح الطريق أمام العقل العربي للإبداع من خلال استخراج وتبديل الآليات المنتجة للنص التراثي، ونقد وتمحيص الآليات المنهجية المقتبسة من التراث الغربي، وفي هذا يقول الدكتور طه ينبغي "الخروج عن الطريق الذي اتبعه مفكرو الغرب والعرب على السواء في تقويم التراث الإسلامي العربي".

للكاتب/المؤلف : طه عبد الرحمن .
دار النشر : المركز الثقافي العربي .
عدد مرات التحميل : 6419 مرّة / مرات.
تم اضافته في : الجمعة , 15 مارس 2019م.
حجم الكتاب عند التحميل : 15.3 ميجا بايت .

ولتسجيل ملاحظاتك ورأيك حول الكتاب يمكنك المشاركه في التعليقات من هنا:

في إطار الحديث عن النقد والتفكيك الذي أتت به حداثة الفلسفة المعاصرة، يتأتى الحديث عن النقد المعاصر للتراث أو بالأحرى التقويمات المعاصرة للتراث، وقد طغت عليها في معظمها، كما يرى الدكتور طه عبدالرحمن، النظرة التجزيئية التفاضلية، التي نظرت في مضامين النصوص التراثية بوسائل تجريدية وتسييسية منقولة، متناسية الوسائل "التسديدية" و"التأنيسية" التي عملت على تأصيل وإنتاج هذه المضامين التراثية.

وقد "بنى طه مقاربته لحقيقة ومنهج التراث على منهجية وآلية وعملية واعتراضية، فأما الآلية فتجسدت في الاعتراض على مقاربة التراث بتسليط آليات منقولة إليه، مما يُفضي إلى نظرة تجزئيّة ظاهرة التهافت، ولذلك فإنّ حقيقة التراث هي مضامينه التي تجتمع إلى الآليات التي أنتجتها، ومنهج التراث هو الذي يتمثل في الممارسة والإشغال التراثي في مظهريه التكامليين: التداخلي والتقريبي[...]، وأمّا العملية فتتمثل في تفعيل التراث وإعماله؛ لأنّ عقل التراث عقل واسع وعلمه نافع يجمع النظر في الأسباب ومقاصد العمل بها، وأخيراً تأتي المنهجية الاعتراضية التي انطلق منها د. طه لتُبطل ما تعرض له التراث من قراءات أهملت جوانبه المضيئة وقصّرت في تبيان مجالات إمكان الاستئناف والمواصلة في العطاء".

وفي ذلك يأتي قوله تأكيداً: "لقد اتبعنا في الاشتغال بمسالك تقويم التراث منهجية تستمد أوصافها الجوهرية من المبادئ التي قامت عليها الممارسة التراثية الإسلامية العربية؛ فكانت في مقصدها منهجية آلية لا مضمونية: فلم تنظر في مضامين الإنتاج التراثي بقدر ما نظرت في الآليات التي تولّدت بها هذه المضامين وتفرعت تفرعًا، عملاً بمبدإ تراثي، مقتضاه [أنّ اعتبار المعاني لا يستقيم، حتى يستند إلى اعتبار المبادئ]؛ كما كانت، في منطلقها، منهجية عملية لا مجردة: فلم تعتمد معرفة نظرية منقولة ومقطوعة عن الضوابط المحددة والقيم الموجهة للممارسة التراثية، بل استندت إلى أساليب التبليغ العربي في خصوصيتها، وإلى معاني العقيدة الإسلامية في شموليتها، وإلى مضامين المعرفة الإسلامية العربية في موسوعيتها، عملاً بمبدإ تراثي ثانٍ، مقتضاه [أنّ المعرفة لا تثمر حتى تكون على قدر عقول المخاطبين بها]؛ وكانت في مسلكها أخيرًا منهجية اعتراضية لا عَرْضية: فلم تكن تقرّر الأحكام تقريرًا وترسلها في عموم التراث إرسالاً، وإنما كانت تفتح باب السؤال، فتورد ما جاز من الاعتراضات على ما ادعاه بعض من تعاطوا لتقويم التراث من أقوال، بل على ما جئنا به نحن من دعاوى، حتى تمحّصها كما ينبغي وتقوّمها بالوجه الذي ينبغي، عملاً بمبدإ تراثي ثالث، مقتضاه [أنّ الظفر بالصواب لا يكون إلاّ بمعونة الغير]"

- نقد الخطابات التجزيئية (للعقلانية المجردة) في القراءة المعاصرة للتراث

يرتكز عمل الدكتور طه عبدالرحمن في مسألة تجديد النظر إلى التراث على شيئين أساسيين:

أولهما: نقده للخطابات التجزيئية التفاضلية في قراءة التراث والكشف عن مظاهرها الأساسية التي يتجلى فيها هذا التجزيئي المجرّد للمحتوى التراثي والوقوف على الأسباب العامة التي أدت إلى ذلك، وقد انطلق من دعوى مفادها "أنّ التقويم الذي يغلب عليه عملية الانشغال بمضامين النص التراثي، ولا ينظر البتة في الوسائل اللغوية والمنطقية التي أنشئت وبلغت بها هذه المضامين، يقع في نظرة تجزيئية إلى التراث".

"هذه الدعوى استند في إثباتها إلى مقدّمة التركيب المزدوج للنص، واعتبر أنّ كلّ نصّ حامل لمضمون مخصوص، وأنّ كلّ مضمون مبني بوسائل معينة، ومصُوغ على كيفيات محددة، حيث لا يتأتّى استيعاب المستويات المضمونية القريبة والبعيدة للنص، إلا إذا أحيط علماً بالوسائل والكيفيات العامة والخاصة التي تدخل في بناء هذه المستويات المضمونية. لذا فكل قراءة تراثية تأخذ بالمضامين من دون الوسائل التي أنتجتها واقعة في الإخلال بحقيقة التلازم بين طرفي النص: المضمون والآليات، كما أنّ تقسيم المضامين التراثية إلى أجزاء بينها تفاضل، وانتقاء ما حسن منها ينتمي أصحابها إلى النزعة المضمونية التي حملتهم على اعتناق النظرة التجزيئية، بالإضافة إلى توسلهم بآليات مستمدة من مجالات ثقافية أخرى غير التراث العربي الإسلامي، يسميها طه عبدالرحمن الآليات الاستهلاكية، وقد حصرها في صنفين أساسيين هما: الآليات العقلانية، والآليات الإيديولوجية والفكرانية". 

وثاني مرتكزات الدكتور طه في تجديد النظر إلى التراث هو إبداعه في "تجديد عطاء التراث واستئناف بنائه"، فيرى الدكتور طه أنّ التراث واحد في حد ذاته ومتعدد باعتبار الذات القارئة له أو بالأحرى باختلاف القراءات والرؤى له، فيقول: "إنّ التراث بوصفه جملة وقائع معلومة يبقى واحداً لا تعدد فيه، ولو أنّ الطرق الموصلة إلى هذه الوقائع هي بعدد المفكرين الذين اشتغلوا به وصفاً أو نقداً".

"غير أنّ الكثرة التي تناولت التراث بين وصف ونقد لم تصب في طلبها النهوض بالتراث واستئنافاً لبنائه وتجديداً لعطائه، وهذا يرجع، في نظر د. طه عبدالرحمن إلى قصور الفهوم عن طلب حوار مع التراث يتوسل بآليات حديثة منقحة ويشحذ، في الوقت نفسه، آليات إنتاج النص التراثي نفسه، فما هي الخطة القويمة لتجديد عطاء التراث واستئنافه عند د. طه عبدالرحمن؟". 

يؤسّس الدكتور طه رؤيته للنهوض بالتراث على عدّة محاور أهمها:

"الاحتكام إلى المجال التداولي الإسلامي روحاً ومنهجاً[...]، والتحرر من أيّة سلطة فكرية غربية توجّه البحث، ومن هنا وضَعَ حدّاً لمرجعيات تحشر نفسها في كل قضية، وأزاح كابوس الإحالات المفتعلة والمغرضة لدى الكثيرين من أصحاب القراءات[...]، وضع ما سماه الآليات الإنتاجية التي رتب قوانينها، وبيّن خصائصها، فأصبح مشروعه هرماً معمارياً من المصطلحات والمفاهيم التي تم تشكيلها بتلقائية". ومن أهم هذه المحاور أيضاً "استخراج آليات إنتاج النص التراثي وتحديث إجرائيتها بشحذ العدة المنهجية التراثية وتأهيلها لمواصلة العطاء واستئناف البناء".

وبذلك يمكننا أن نقول: إنّ الدكتور طه صار في نظرته إلى التراث أكثر حداثة من غيره، ويتضح ذلك في أنه لم يطلب من الحداثة إلا أدواتها ووسائلها النافعة، ولم يكتف بذلك فقط، بل طلب مواءمة هذه الوسائل لخدمة إشكالاتنا التراثية، وبذلك فتح الطريق أمام العقل العربي للإبداع من خلال استخراج وتبديل الآليات المنتجة للنص التراثي، ونقد وتمحيص الآليات المنهجية المقتبسة من التراث الغربي، وفي هذا يقول الدكتور طه ينبغي "الخروج عن الطريق الذي اتبعه مفكرو الغرب والعرب على السواء في تقويم التراث الإسلامي العربي".
 



نوع الكتاب : pdf.
اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل تجديد المنهج في تقويم التراث
طه عبد الرحمن
طه عبد الرحمن
Taha Abdul Rahman
طه عبد الرحمن (1944 بالجديدة)، فيلسوف مغربي، متخصص في المنطق وفلسفة اللغة والأخلاق. ويعد أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين في مجال التداول الإسلامي العربي منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ الحق العربي في الاختلاف الفلسفي ❝ ❞ سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية ❝ ❞ روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية ❝ ❞ الحوار أفقا للفكر ❝ ❞ تجديد المنهج في تقويم التراث ❝ ❞ سؤال العمل: بحث في الأصول العملية في الفكر والعلم ❝ ❞ التأسيس الائتماني لعلم المقاصد ❝ الناشرين : ❞ المركز الثقافي العربي ❝ ❞ الشبكة العربية للأبحاث والنشر ❝ ❞ مركز نهوض للدراسات والنشر ❝ ❱.



كتب اخرى في فكر إسلامي

دقيق الكلام الرؤية الاسلامية لفلسفة الطبيعة PDF

قراءة و تحميل كتاب دقيق الكلام الرؤية الاسلامية لفلسفة الطبيعة PDF مجانا

الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده ج1 PDF

قراءة و تحميل كتاب الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده ج1 PDF مجانا

العلم و الإيمان: مدخل إلى نظرية المعرفة في الإسلام PDF

قراءة و تحميل كتاب العلم و الإيمان: مدخل إلى نظرية المعرفة في الإسلام PDF مجانا

الإسلام والغرب: افتراءات لها تاريخ PDF

قراءة و تحميل كتاب الإسلام والغرب: افتراءات لها تاريخ PDF مجانا

الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده ج3 PDF

قراءة و تحميل كتاب الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده ج3 PDF مجانا

موقف المستشرقين من العبادات في الإسلام من خلال دائرة المعارف الإسلامية دراسة تحليلية نقدية PDF

قراءة و تحميل كتاب موقف المستشرقين من العبادات في الإسلام من خلال دائرة المعارف الإسلامية دراسة تحليلية نقدية PDF مجانا

الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده ج4 PDF

قراءة و تحميل كتاب الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده ج4 PDF مجانا

الأعمال الكامله للشيخ محمد عبده ج5 PDF

قراءة و تحميل كتاب الأعمال الكامله للشيخ محمد عبده ج5 PDF مجانا

المزيد من الفكر والفلسفة في مكتبة الفكر والفلسفة , المزيد من النجاح وتطوير الذات في مكتبة النجاح وتطوير الذات , المزيد من مقارنة الأديان في مكتبة مقارنة الأديان , المزيد من السياسة في مكتبة السياسة , المزيد من علم النفس في مكتبة علم النفس , المزيد من الهندسة الشاملة في مكتبة الهندسة الشاملة , المزيد من محمد صلى الله عليه وسلم في مكتبة محمد صلى الله عليه وسلم , المزيد من أوراق المؤتمرات والملتقيات العلمية في مكتبة أوراق المؤتمرات والملتقيات العلمية , المزيد من غير مصنفة في مكتبة غير مصنفة
عرض كل المكتبة التجريبية ..
اقرأ المزيد في مكتبة كتب إسلامية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تقنية المعلومات , اقرأ المزيد في مكتبة المناهج التعليمية والكتب الدراسية , اقرأ المزيد في مكتبة القصص والروايات والمجلّات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الهندسة والتكنولوجيا , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب والموسوعات العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تعلم اللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التنمية البشرية , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب التعليمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التاريخ , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأطفال قصص ومجلات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الطب , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب العلمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم سياسية وقانونية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأدب , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الروايات الأجنبية والعالمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب اللياقة البدنية والصحة العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأسرة والتربية الطبخ والديكور , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب الغير مصنّفة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب المعاجم واللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم عسكرية و قانون دولي
جميع مكتبات الكتب ..